كوميديا سوداء في حرب اليمن
كوميديا سوداء في حرب اليمن
د. احمد عبداللاه
تقترب من نهاية عامها الثالث، تزداد تعقيداً وتتسع ضبابية المشهد. هي حرب اليمن التي ظن المتابعون، بعد تدخّل التحالف العربي، أنها ستنتهي في غضون أسابيع أو بضعة شهور، فإذا بها تمتد وتتشعب، وتُحدث بيئة خطرة شمالاً وجنوباً. في المقابل، لا توجد بارقة أمل واحدة تشير إلى حسم عسكري “ممكن” في العام الرابع من الحرب، أو إلى “حسم” سياسي من خلال تفاهمات موضوعية.
اليمن بغريزته التاريخية بلد مختلف.. يتصارع، يتوازن، أو ربما يتغيّر، ولكن بطريقته، لأنه يضع “قواعد لعبته” الخاصة التي لا يفهمها حتى من حاول الإمساك به عقودا متسلسلة من خلال علاقات فوقية مع الحكام والمشايخ، لأنه لم يدرك أنه إذا حاول التدخل “عسكرياً” في مصائبه سيخرج بدروس تاريخية مؤلمة، سوف تردّدها الأجيال. فللحكاية سابقة عربية محفورة بعمق في الذاكرة.
لا يستطيع أحد الآن الادعاء أن العربية السعودية “قائدة التحالف” كانت تفهم أنها أمام خيارين: أن تقود الحرب إلى حيث تريد، أو أن الحرب ستأخذها إلى حيث لا تريد. ويتعمّق النصف الثاني من العبارة يوماً بعد يوم، خصوصا والمملكة لا تمتلك أي خبرة حقيقية سابقة في المواجهات الحربية والتدخلات المباشرة، وظلت أزمنة طويلة تدير سياسات الاحتواء والشراء أو التفاهمات مع الأشقاء والجيران. وربما تدخلت هنا وهناك من خلال وكلاء، لكن ليس بحجم الحروب التي تشهدها المنطقة اليوم. كما أن المملكة التي اعتمدت، في تاريخها الحديث، على الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، تلقّت ضربات معنويةً غير مسبوقة، من حلفائها في الأعوام التي سبقت 2017، وما تزال منكشفة لأية موجة من تغييرات مواقف الأقطاب العالمية الكبرى لعوامل عدة. لكن ما يشد المتابع للحالة اليمنية ما يمكن تسميتها الكوميديا السياسية السوداء التي تجلّت في الآونة الأخيرة.
السلطة اليمنية الشرعية التي تحكم من الرياض تتضارب آراؤها وتصريحاتها بطريقةٍ تثبت
“السلطة الشرعية التي تحكم من الرياض تتضارب آراؤها وتصريحاتها بطريقةٍ تثبت انعدام الرؤية”
انعدام الرؤية، أو ربما لا تفهم واقعها في الميادين السياسية والحربية.. إذ تسوق مقاربات تتأرجح بين الحل السياسي تارة والحسم العسكري تارة أخرى، وفي الحالتين يبدو للمتابع أنها لا تفهم كيف؟ أي أن السلطة الشرعية التي قامت الحرب “نظرياً” لأجلها، لا تمتلك موقفا ثابتا من معالجة الكارثة سلماً أو حرباً، بل تتماهى صعوداً وهبوطاً وفقاً لحسابات الميادين والتقلبات في خريطة التحالفات.. فلم تقدّم سياسياً مقاربة موضوعية أو نموذجاً للحلول، خارج ما تقول إنها ثوابت لا يجوز المساس بها، لكي تضمن تماسك المواقف الخارجية بصورةٍ تتسق مع قناعاتها، خصوصا وأن المجتمع الدولي يقترب من التوافق على أنه لم يعد هناك أي استحقاق منطقي يبرّر هذه المأساة العظيمة.
وفي السياق نفسه، لا يوجد أي تقدم في الميادين العسكرية إلى درجةٍ يمكن التنبؤ معه بانهيار الطرف الانقلابي. كما أن معركة صنعاء أو شعار “قادمون يا صنعاء” ما يزال أمراً في كف الغيب، وليس في مقدور أحد أن يبلور أي منطقٍ عسكريٍّ ثابت بشأن كيفية الوصول إليها، بعد أن رأى المتابعون، نحو ثلاثة أعوام، التناقضات الجذرية في التنظيرات المتلفزة بشأن بلوغ “معركة صنعاء”. وإن تم ذلك، افتراضاً، فإن أحداً لا يقوى على أن يتخيّل مشهدية صنعاء، حين يجلب كل طرف حلفاءه إلى جحيمها! وهل يغض العالم الطرف عن الكلفة الإنسانية والاجتماعية الباهظة وتداعياتها في العقود المقبلة؟ تلك أسئلة لم يجرؤ أحد على مقاربة الردود المنطقية عليها.
أما كيف تجلت الكوميديا السوداء بصورة أوضح متّسقة مع الأداء السياسي العام، إقليميا وداخليا، فيمكن تلخيصها أيضاً في مسألتين إضافيتين:
ظهرت الأولى من طريقة التعامل بعد مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح (بطريقة وحشية مدانة)، وكيف تحوّل الرجل، من خلال كلمة قالها على الهواء قبل رحيله بأربع وعشرين ساعة، من “عدو مخلوع” إلى “بطل عروبي وشهيد مؤسس لانتفاضة صنعاء المزعومة”، فغسل التحالف العربي، ومعه جماهير المستمعين، تاريخه الذي بسببه اندلعت ثورة وحروب، وكان طرفا رئيسا في هذه المأساة غير المسبوقة في حياة البلد قديماً وحديثاً.
عكست تلك المسألة، وفق متابعين كثيرين، الخفّة السياسية في التعامل مع جمهور اليائسين من اليمنيين الذين تسحقهم آلات الإعلام والإعلام المضاد يومياً، وتصرفهم عن حجم المآسي الكبرى المباشرة وغير المباشرة التي تخلفها الحرب ومسبباتها وتداعياتها في الحاضر والمستقبل، وتأخذهم إلى مسارات وهمٍ لا نهاية لها.
جاءت الثانية من مشهدية اللقاء الذي جمع المحمدين (بن سلمان وبن زايد) بقيادات من حزب التجمع اليمني للإصلاح في الرياض، وما تلاه من تسويق إعلامي، جاء من مستويات عليا يفيد بأن “الإصلاح” أعلن خلعه خاتم تنظيم الإخوان المسلمين، وأصبح بذلك حليفاً “كامل الأهلية” للمملكة وللإمارات، وهما العضوان الرئيسان في دول التحالف.
أثارت تلك الأخبار مزيداً من البلبلة في المشهد السياسي الغريب، وتساءل كثيرون بشأن مدى استيعاب الناس حقيقة أن حزب الإصلاح، وهو حزب رئيسي وكبير في المعادلة السياسية اليمنية، سيتخلى عن جذوره وعقائده وفلسفته ومنهجه، بل وعن أعضائه وكل قواعده التي تتبعه فكرا وكيانا وهدفا، وليس قيادة وأسماء؟
وهل كانت المملكة السعودية، ومعها دولة الإمارات العربية، وبعد مرور ثلاث سنوات حرب، بحاجة ماسّة إلى هذا الإخراج الإعلامي؟ وهل هو “اختبار النوايا”، كما غرّد وزير الدولة
“لم يعد اليمن بحاجة إلى مزيد من التكتيك والصفقات المؤقتة”
الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، في إشارة إلى ما يمكن اعتبارها صفقة تجريبية؟ وماذا عن النوايا السابقة منذ اندلاع الحرب في 2015، خصوصا وأن العالم يفهم أن حزب الإصلاح كان وما يزال شريكا فيها؟ وأخيراً هل هو حزب الإصلاح، أم أنه التحالف العربي من تذكّر، أخيرا، أنه في حاجة إلى إذاعة “فك الارتباط بين التنظيم اليمني والتنظيم الدولي”، أي من يستخدم من في سياقات تكتيكية متجدّدة؟ وما علاقة ذلك بمحاولات بناء ما تسمى جبهة عريضة، يضاف إليها حزب المؤتمر الشعبي “المتشظّي” وبقايا العسكريين الموالين لصالح، بعد أن تركوه وحيداً في مواجهة مصيره؟
تساؤلات تضيف ثقلاً حقيقياً إلى قناعات اليمنيين بأن الحرب الدائرة تدخل مرحلةً ربما أشد تعقيدا، تختلط فيها أوراق كثيرة، وتسودها تفاهماتٌ جديدةٌ، لا يستطيع أحد استيعاب فكرة صمودها، كما اعتبرها آخرون استخفافا كبيرا بعقول الجمهورين، المحلي والعربي، ولا تنم عن جدّية كاملة في التعامل الحقيقي مع واقع اليمن شديد التعقيد.
لم يعد اليمن بحاجة إلى مزيد من التكتيك والصفقات المؤقتة، لأن الحالة الإنسانية وصلت إلى حدودٍ لم يعد المجتمع الدولي ولا الضمير الإنساني، يتقبلها، خصوصا مع ازدياد الضحايا من المدنيين، نتيجة الأعمال العسكرية، وتفشّي الأمراض القاتلة والمجاعات، وانهيار الشروط الأساسية للحياة في كل المناطق. هناك 80% من سكان اليمن محاصرون في جغرافيا تمثل 30% من مساحة اليمن، تسيطر عليها جماعة أنصار الله “الحوثيون”، ولا يختلف الحال عند بقية السكان في المدن والأرياف المحرّرة، أي أن التوزيع السكاني وتوزيع المآسي اليومية لا يدلان على أن الحرب قد حققت القسم الأكبر من أهدافها، إذ ما تزال الكتل السكانية الكبرى تواجه مصائر مرعبة.
للكوميديا السياسة السوداء دلالة واحدة، أن استمرار الحرب لن يتجاوز المراوحة بين الموت جوعاً أو مرضاً أو قتلاً، وتُحتّم أن يجد العالم فرصة نهائية وسريعة للخروج منها، وأن يضع حلولاً شاملة وعادلة وثابتة، تخدم الاستقرار الدائم قبل أن تتعمّق مصائب هذا البلد.