مأرب في معاركها مع “الشمس”..!
الهدهد، في تطوافه اللاهث لجمع الأخبار وإيصالها لسيده العالي، أخلى مداه الفضائي بعد آلاف السنين لهيكل معدني طائر يُدعى الدرونز، وهي دابة الأجواء المسيرة في مهمة جمع الصور وإعداد الميادين لمولاها المفوض لقيادة حروب الرب الإقليمية.. ولم يعد للهداهيد مكان يليق بها في السماوات المزدحمة بالموجات المحملة بصخب الميديا فانزاحت لتسكن إلى مروج السافانا، ملاذها الأبدي، مشدودة بين حين وآخر نحو الامتدادات الرحبة لقارات ثلاث.
مملكة سبأ لا يخلو تراثها من بعض الاساطير، ولا يوجد تطابق تام لحكاياتها المتعددة مثلما لا توجد معرفة دقيقة وكاملة حول التتابع الكرونولوجي والامتدادات الجغرافية وعلاقة أكسوم الحبشية بها… على اعتبار أن ما أُضيف إلى النصوص المقدسة والكتابات القديمة ما يزال قاصراً، وسوف يحتاج المؤرخون والاستكشافيون إلى زمن طويل قادم لإيقاظ ما خبّأته الرمال والدهور.
لكن ما هو جلي اليوم أن “حاضرة سبأ ومحيطها”، بعد رحلات عبر العصور القديمة، أتت عليها أزمنة وأحوال تذبذبت فيها بين المكوث والرحيل، ثم في تاريخها الحديث تأرجح ما تبقى منها بين “العدم الصحراوي” والبواريد، ودون أن تغشاها سحابة عصرية عابرة، تنتقل اليوم إلى مشروع إمارة مصانة بتقية المرابطين ومحروسة ببندقية القادمين من غزوات الماضي التليد، في انتظار إطلالة أمير المؤمنين الأناضولي.
لا شيء يتبدل سوى الأدوات منذ ان تنفست أغباش الأزمنة الأولى فوق منحدرات وقيعان هذا المهد الحضاري الذي خرجت منه أقوام تجاوزت ما احتواه (كتالوج) النسّابين العرب وما ظهر في تدوين المؤرخين أو ما تناسخه الورّاقون.
لكن ما يهم اليوم هو معرفة المفارقات المزلزلة التي تحوط بهذه البقعة الثمينة والوضع الذي آلت إليه، وأي من الولاة سيدخل قراها ويجعل أعزة أهلها مجرد شظايا قبائل ومحاربين، مع التاكيد بأن الأمر لم يعد بحاجة إلى هدهد لمعرفة أخبارها. لقد تبدلت الدنيا وتغيرت الوسائل لكن السياق العام للفكرة ما يزال باق على أوجاعه.
بين الأمم القديمة والأمم الحديثة… ومن الشمس “الإلهة المعبودة” حتى الشمس “شعار التنظيم” خاضت مأرب معاركها وقطعت رحلة تاريخية تراجيدية معقدة لينتهي بها الأمر إلى أن صارت جزء صحراوي من دولة اليمن المنكسرة ثم مركز لصناعة الجيوش المعدة لحرب متعددة الأوجه تتضارب الدلالات بين شعاراتها وأهدافها الغامضة.
وتدريجياً ستصبح محصورة بين قوتين تتخذان من الدين واجهة ايديولوجية. ولن تنجو، بعد صراع منتظر، من هيمنة إحداهما لأنّ ظروفها الداخلية لا تسمح بأن يدفع الأبناء عنها حروب الطوائف السياسية التي يُحشد لها بمسميات وطنية.
صراعات مأرب تتخذ أشكال مختلفة في كل مرحلة ولم يُترك لها خيارات سوى في تجلياتها القبلية بعد أن تم حشرها ضمن دائرة الغياب والقلق والعنف، وأُبهتت مكانتها الاجتماعية والاقتصادية إلا فيما يرفد المركز الحاكم بوسائل القوة والبقاء.
ومثلما ظلت أيام (السلم) هامشية تتقلب على إيقاع الدولة المضطربة أصبحت في زمن الحرب الجارية “مشروع مركز” تابع يتذبذب بين الأقوياء مع تغييب ملحوظ لأهلها.
ذلك هو الشق المعتم من أقدار الأرض ذات القيمة الحيوية. فمثلما كان لمأرب في العصور الغابرة مكانة اقتصادية في الزراعة وهندسة الري وفي التجارة فإنها تمتلك اليوم موارد مهمة في قطاعات الزراعة والسياحة والصناعة البترولية. والاخيرة تعد من أهم مقومات الحاضر المأربي، إذ أن بترولها لم يذهب إلى النضوب بالوتيرة التي تفعل تدريجياً “بعض مناطق أخرى”، بل أن لديها موارد ماتزال كامنة في طبقاتها (رأسياً) وعلى امتداداتها الطبيعية (أفقياً)… وما يزال الجزء الغربي/ج غربي منها بكراً مُبشّراً، فهي منطقة غنية بكل ما تعنيه الكلمة.
هذه الارض جوهرة ثمينة تحتاج إلى عقود لاستخراج تواريخها ومواردها من مكامنها الطبيعية… وما كان يجب أن تصبح منصة لحزب أو مخبأ لجماعة لأن مالديها يؤهلها بأن تظل دوما منطقة استراتيجية تنتمي للحياة وتغسل وجوه قبائلها من غبار الضياع المزمن، وأن تحظى بشرائح من العقول القادرة على التنمية وصناعة المستقبل الحقيقي. وهناك الكثير ما لا يقال في كتابات عامة.
مأرب بحاجة ملحة إلى استراحة تاريخية لتكتشف قيمتها وتخرج تدريجياً من أدوارها الوظيفية المرحلية لتصبح قادرة على الفعل والإملاء وتحقيق توازن عادل مع الآخرين بما يحفظ حقوقها ومكانتها، وأن تنفتح على الفضاء الرحب وتوجه طاقتها نحو المستقبل وليس العكس.
ماذا بعد؟
لا شيء لا شيء.. فالمزيد من الخوض في هذا الغمار يوجع القارئ المهووس بالنجاة من ويلات هذا الزمن ومنشغل بتصريف يومياته في استطلاعات الاخبار ومعارك الميديا الناشبة بين أفواج المصطفين خلف الأقطاب المتحاربة.