مقالات وكتاب
في رحاب الميتافيرس.. بعد فوات الأمان
أن تكون ابن المكان فأنت جزء منه، أَلِفْتَ وجوه البشر ونوع الشجر وما يدبُّ على الأرض. كل شيء له خصوصية حتى إشراقة البروق وصفير الريح وعزيف الرمال وانسكاب المزن. أنت أفاتار قمر باندورا، دون تلال معلقة، تتواشج وجدانياً مع “الروح الجمعية” للأحياء والنبات وكأنك أتيت إلى هذه البقعة مباشرة بعد ال”بيج بانج” و لست من غبار النجوم الذي مر برحلة كونية معقدة حتى صار انت.
ثم ماذا؟
ثم يقال لك: عليك ان ترحل! هنا سوف تنشأ حضارة جديدة مختلفة ليس فيها ما يشبه زمانك ومكانك. مدينة مثالية فائقة الذكاء، نموذج يتجاوز كل ابتكارات التخطيط ما بعد الحداثي وبالتأكيد ليست من أخوات لاس فيجاس او من طراز ديزني لاند. ستكون ذات أبعاد هندسية لا يشبهها شيء (في صفتها الطولية) حتى الجزر التي تشكلت طولاً وعرضاً بفعل زفرات بركانية قبل ملايين السنين أو التي كوّنها ركام الشعاب المرجانية.
تستمر المسميات في التحوّر لتصبح الأرض “ذا لاين” والجبال “تروجينا” والبحر “اوكساجون” وفي الوقت ذاته ترحل أرض “الحويطات” وأخواتها إلى الميتافيرس يستحضرها، في نظارات الواقع الافتراضي( VR)، السكان الغرباء الذين سوف يتوافدون من كل شرق ومن كل غرب.
هل أصبحتَ هندي أحمر؟ بالتأكيد لا، ربما (هندي أغبر) إذ لا وجود لأي حملة تبشيرية من خارج المحيط. كما أنك تستطيع أن تحتفظ بعروبتك الصحراوية وجيناتك “النبطية” ولكن إلى زمن تتبدل فيه الأجيال وينشأ مجتمع عصري بهويات مركبة في تلك المدن الخرافية. حينها لا يرى الشعراء في السروات ما يلهمهم من جُددٍ بيض وحمر أو غرابيب سود، بل شبكات “تلفريك” تحمل كيمياء الوافدين الأثرياء ودهشة السياح إلى قمم ظلت عذراء لم يمسسها شيء منذ طوفان نوح عدا ثلج شتوي ضئيل و مخالب الصقور.
قد يشيدون لك مراكز عزل حديثة كي تبقى بعيداً عن حضارتهم الجديدة. وعليك أن تقدّر ذلك لمصلحة الوطن الكبير ومستقبله، وتتدبر كيف تعيش حياتك الباقية وتهيئ ذريتك للقفز إلى النهضة الحديثة بعد انقراض جيل “الأصليين” indigenous بمرسوم وطني.
و في مكان بعيد على الناحية الأخرى من الكوكب، بين أوهايو و أستراليا، هناك دولة جزرية صغيرة ظلت تحتفظ باسمها البدائي الاصيل، خضراء زمردية غنّاء تسر الزائرين. لكن مناخ الأرض بدأ يلهث فوق البحور ويحفزها على ابتلاع الجزر والشطآن المنخفضة.
توفالو ستذهب مع المحيط في رحلة غرق تراجيدية قد تستمر حتى نهاية القرن قبل أن تختفي تماماً. أما سكانها فسوف يهاجرون تدريجياً خلال الاجتياح المائي البطيء. عام بعد عام يرحلون دون حاجة إلى قوارب طوارئ كي ينجوا من “تيتانيك الغارقة” التي انكسر جسدها السابح باتجاه ال”ايسبرج” لأن الإنذار هنا مبكر للغاية يطلقه انجراف الشطآن البيضاء، والزمن متاح جداً للهروب الحر.
وفي يوم من أيام الله المشمسة يقف الأبناء والأحفاد على ظهر سفنهم و قواربهم الحزينة ليلقوا نظرتهم الأخيرة على سطوح البيوت و أعمدة الكهرباء و طواحين الرياح ورؤوس الأشجار.. تلك التي ما تزال أجزاء منها بارزة فوق أفق المياه قبل أن تتوارى نهائياً في الأعماق.
سيأخذ الاختفاء زمنه حتى تستكمل الحكاية وترحل توفالو بأكملها إلى رحاب الميتافيرس، وتصبح “جزر وأتولات” رقمية تراها الأجيال يوماً ما وترى شعبها وثقافته وتاريخ الغرق المرئي.
نموذجان متضادان من جهتي الكوكب. واحد يظهر ويغير في البيئة بصورة جذرية ويُطوى التاريخ وينزاح (الرَّبع) و تتبدل أحوال الطبيعة في مساحة محددة من بلد الوقود الأحفوري الوفير، وآخر يختفي نتيجة الاحتباس الحراري وتغير المناخ وهو بلد (جزري) لا يمتلك سوى الأشجار وسمك البحر واقتصاد زهيد.
في زمن ما سوف يصحو العالم على نقطة انعطاف لا عودة منها حين يُستكمل السباق نحو استبدال مناهج الحياة وقيمها، و تتهدم نظم البيئة وتوازنات الطبيعة على الكوكب. وقتئذٍ لم تعد هناك ضرورة إلى أرشيف رقمي يخلد الماضي في ال”ما وراء العالم الحقيقي” أياً كانت مسمياته لأن الأمان يكون قد فات.
احمد عبد اللاه