يمنستان تحت الرادار
يستدير الصينيون والأميركيون معا إلى اليمن فمن تنافسهما على النظام الدولي إلى توافق لافت في اليمن، هذه الاستدارة التي جاءت بعد أن كان اليمنيون بالقرب مما يفترض أنه تسوية سياسية تنهي حربا ممتدة منذ عام 2014، عندما انقلبت جماعة الحوثي على السلطة الشرعية وفرضت واقعا سياسيا هو في الحقيقة ما يعيش العالم كاملا جزءا من ارتداداته. التطورات في جنوب البحر الأحمر وباب المندب بعد أن بدأت هجمات الحوثيين الصاروخية على جنوب إسرائيل وعلى السفن التجارية، مجرد حوادث، حتى ردة الفعل الأميركية والبريطانية تظل في المنظور الواقعي ردة فعل ضمن السياسات الأميركية في احتواء جماعة الحوثي تتطابق تماما مع تلك السياسات لاحتواء النظام الإيراني منذ 1979.
تعتقد الولايات المتحدة أن ضرباتها “التأديبية” لجماعة الحوثي يمكن أن تصل إلى دائرة الردع العسكري حتى إعادة تصنيف الجماعة في قوائم الإرهاب الأميركية وفرضها مع بريطانيا عقوبات على قياداتها، كل هذا يمكننا أن نصفه بأنه إعادة تصويب للتقديرات الأميركية للحوثيين، مازالت الولايات المتحدة عند مقاربتها الأساسية لعملية السلام المفترضة فالذهاب للخيارات العسكرية يبقى مجرد ردة فعل على التجاوزات الحوثية على خطوط الملاحة التجارية في المرات المائية، وهنا ظهرت الصين المنافس التجاري ليدخل بطلبه الوساطة الإيرانية عند الجماعة الحوثية.
كيف يمكننا أن نتصور بأن الدولتين الكبيرتين في النظام الدولي تصلان في تعاملهما مع جماعة بدائية في تعليمها وتأهيلها إلى هذا الحد من التعامل، وقد تنضم روسيا وفرنسا وكافة دول العالم الغربي في تحالف أكبر من ذلك الذي دعت إليه واشنطن “حارس الازدهار” يناظر ذلك الذي احتاجته الولايات المتحدة في حرب تحرير الكويت 1991، هذا الاستدعاء اللحظي يدعو إلى استيعاب حقائق الأشياء كما هي لا كما تريده عواطف العرب وهم المعنيون بأزمة غياب التصورات الصحيحة لأزمة اليمن وما صنعته أيديهم قبل أيادي الغرب والشرق حتى تحولت أزمة صغيرة في جزء جغرافي صغير في صعدة إلى أزمة دولية كبرى تتسبب في تبعات على الاقتصاد العالمي.
القضية الحوثية لا تتعلق بأزمة غزة، وبمجرد التفكير بهذا المنطق يعني اجترارا لما تريده الجماعة كما أراد أن يفعله أسامة بن لادن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكما حاول من بعده أبوبكر البغدادي وكما حاول من قبلهم الخميني، فهذه هي النقطة العمياء أو المتعامى عنها عند النظر إلى الكيفية التي تفكر بها الجماعات الراديكالية الإسلامية، فهي تفكر في الرهان على الوقت وإشعار خصومها بالخوف والرعب من خطواتها التي نعتقد أنها غير محسوبة، ترشدنا حركة طالبان لهذه الكيفية في أنها استفادت من القنوات الخلفية التي أدارت حوارا سياسيا معها بينما كانت في أفغانستان تكرس سطوتها حتى انتزعت من المجتمع الدولي إقرارا بحكمها على كابول.
في اليمن أخطأت التصورات السياسية في المبادرة الخليجية التي تم توظيفها من جماعتي الإخوان والحوثيين بالسياق الذي مكنّ لهما وجودا سياسيا فيما بعد الحوار الوطني، وها هو الواقع اليمني بيد الجماعتين؛ الإخوان يتحكمون بإدارة قرار السلطة الشرعية، بينما الحوثيون أعادوا إنتاجهم للأزمة كلها فيما يرون أنها فرصة مواتية لن تتكرر بأن يضطر المجتمع الدولي إلى فتح حوار سياسي مباشر يفرضهم كسلطة سياسية حاكمة لليمن، فالتقديرات الخاطئة ستنتج بطبيعتها قرارات سياسية خاطئة وها نحن تماما عند هذه التقديرات.
وصف محلل سكاي نيوز البريطانية دومينيك واغورن ردة الفعل الأميركية – البريطانية تجاه الحوثيين بأنها “مقامرة”؛ فإما أن تردعهم أو تدفعهم إلى المزيد من المخاطرة في الهجوم، وهذا بالفعل ما حدث مع مقامرة إدارة الرئيس جو بايدن التي وجهت ضربة عسكرية تأديبية مع مواصلة مبعوثها لليمن تيموثي ليندركينغ حديثه المتفائل عن مسار السلام والتسوية. لا يمكن إطلاقا استيعاب هذه المقاربة الأميركية غير أنها فوضوية وتنم عن عدم فهم للأزمة اليمنية وما يعني الإصرار على أساليب المقامرة غير محسوبة العواقب وكأن أحدا لم يستوعب بعد المقامرات من بعد المبادرة الخليجية وعاصفة الحزم وكل هذه المسارات التي في نهايتها أدت إلى تمكين جماعات الإسلام السياسي وتزايد نفوذها من خلال البعد القبلي.
الصين وهي تلجأ إلى إيران أرسلت رسالة خاطئة أخرى تؤكد عمليا عدم استعصاء العالم لفهم التعقيدات اليمنية وأنه لا مناص من أن الحل لن يكون إلا برؤية تؤدي إلى إعادة اليمن إلى ما قبل 1990، منح الجنوب استحقاقه السياسي بفك الارتباط سيؤدي إلى توازن سياسي في جنوب شبه الجزيرة العربية كما كان قائما منذ أن تكون البلدان؛ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، ومن هذا فقط يمكن ضمان الاستقرار الممكن في الممرات الملاحية ويضمن استكمال الجنوبيين لمهمة تطهير بلادهم من العناصر التكفيرية وإقامة دولة مدنية قادرة على أن تكون امتدادا حيويا لاقتصاديات الخليج المتصاعدة.
الحلول القائمة على المقامرات هي ما تبحث عنه الجماعات الأصولية، هذا ما يرشدنا له دائما تعلمنا من سياقات التاريخ المعروف لهذه الجماعات وهي وإذ تسيطر على شمال اليمن فإن في الجنوب فرصة مواتية يمكنها أن تشكل أنموذجا من سنغافوة أو كوريا الجنوبية، فالفرصة متاحة كما فعلها من قبل الزعيم جمال عبدالناصر الذي أيقنّ أنه لا يمكن تأمين قناة السويس بغير أن تكون عدن بيد القوى العربية الوطنية، ما العالم بصدده في اليمن يتطلب رؤية واضحة قبل اتخاذ القرار الحاسم بشأن هذه البلاد التي اعتاد أهلها على الحرب لتوظيفها في معيشتهم فهذه بلاد لها إرثها وتقاليدها وتاريخها الموغل في القدم.