عام آخر، والعابرون إليه يتركون خلفهم ما انتُزع من أعمارهم.
تلك التي لا تُحسب، في بلادنا، بالسنين وإنما بعدد التقلبات العميقة التي وزعت الحياة على فصول مبعثرة و هزّات متكررة وحروب لا آخر لها و سياقات وجدانية متنوعة، عداك عن هجرات و عواصم وثقافات.
وتحت سطوة المتغيرات العنيفة، لم تتراكم الأعمار بصورة طبيعية بل تكسرت إلى اجزاء منفصلة عن بعضها حتى شكلت في آخر المطاف سيرة يعوزها التناسق و المنطق و لا يحتكم محتواها إلى تفسير بديهي. إنها لوحة سريالية، لكن لا تجريد حقيقي أو رسوم بيانية للرموز أو شكل هندسي، عدا أنماط متباينة وزوايا حادة تختبئ بداخلها كيمياء الغموض.
وكلما غادر عام عليك أن ترى تفاصيل اللوحة مجدداً لتكتشف خطوطاً كثيفة بألوان مختلفة، اتسعت حيث ينبغي أن تضيق وضاقت حيث ينبغي أن تتسع حتى تبدد واقعها وانزلق خارج حقل الإدراك. و كأنك دخلت أبعاداً مكانية متعددة أو تنقلت داخل فضاءات متشابكة دون سفر عبر الزمن أو بوابات النجوم المزعومة، وبالتأكيد خارج القوانين الكونية أو أنساق الطلاسم الرياضية، فأنت لم “تتنمذج” في مختبرات سرية لتمنحك عقلاً رقمياً يحسسك بالقدرة على الانتقال الافتراضي داخل عوالم متوازية. أنت فقط (حيُّ بن ولهان)! اضاعتك مشاوير الأزمنة الراكضة بين أجزاء حياة متصادمة وانهيارات ومفترقات تركَت الوطن دون سياج والعقل دون بيئة طبيعية والحب الذي خبأه القلب دون غطاء.
عام آخر، و أمّهات المدن التاريخية ما تزال تموج فوق تيار الزمن المضطرب: واحدة تقف على ساق صناعية وأخرى تحمل سيف حسن الصباح (شيخ الجبل) بعد رحيله بتسعة قرون، تقودها رؤوس متحجرة من حراس العصور المنسية وثالثة تحدق في وجه القائد وترصد محيّاه المخصّب بخليط من أحلام الناس و وخيباتهم. منفصلة عن بعضها بحواجز سياسية عميقة وحدود هندسية دون فواصل اثنوغرافية أو أحزمة طبيعية، وبالتأكيد لا ريو جراندي ولا براهمابوترا.
أما البيداء فدونها بيْد ولكن من النوع الذي لا يعرفه (أبو الطيب)، بعد أن تبدل شأنها وأصبحت تعيش غواية حلم قوّض بشكل متسارع علاقة الإنسان بالمكان! تصعد منها قلاع زجاجية وبروج مصابة بمتلازمة العلو الوهمي. تطل على صباحات كانت ذات عُمْر تغشى البيئة البدوية الهادئة قبل أن تتراجع الشمس المحضة خلف دخان الحضارة الوافدة.
عام آخر، و “لا سكّر في المدينة.. والنوافذ لم تعد إلى أماكنها منذ آخر الحروب” كما قالت هند الغزّاوية، قبل أن تقصف الطائرات (حيَّها) في مخيم البريج، على أرض “تنبض حرائق”. هناك يجسد المحتل، بإخراجات معاصرة، أساطيره على مسرح دموي، بانتظار بقرة حمراء مستولدة تقنياً تأتي محمولة على يخت ابراهيمي لتتسكع في أورشليم قبل أن تصبح جاهزة لطقوس (المشناه)، تدشيناً لنهاية التاريخ! لكن للأرض تلك رواية مختلفة.
عام آخر يفتح الأبواب وينسلخ عن أفق المستقبل مهرولاً نحو حاضر مستتر خلف التأويلات.. وعام ظل قيد التوقيف قبل الانصراف، تثاقل عند البعض دون أن يرددوا الوداعية الفلكلورية “قولوا لعين الشمس…”، بينما انطوى عند البعض الآخر بسرعة الريح التي لا معنى لها سوى انها تبعثر الاشياء في طريقها أو تضعها في غير مكانها.
كل ماض يبدو أجمل و كل ماض قد يصبح “أندلساً” مفقوداً! أما “زمان الوصل”، رمز الحياة الخصبة، فقد صار من مرويات المساءات الحزينة. حتى أن الذاكرة تعيد (تحميله) تحت رقابة صارمة وكأن الخيال ضاقت به الابعاد ولم يعد يتمتع بحرية كاملة.
لهذا أيها العائدون السالمون، أيها النازحون إلى العام الجديد لا ينبغي، رغم كل شيء، أن تفقدوا القدرة على جمع أشتات المنى، وما عليكم إلا أن تفتحوا الأبواب وأن تعبروا إلى زمن آخر، وتذكروا بأن حاضركم ليس جزءاً من ممتلكات أحد. وإن شئتم أن تنادوا “زمان الوصل” كي يخرج من قصيدته المرصودة فافعلوا دون انتظار ل”أندلس” آخر وإنما باستعادة وعيَكم الذي تعرض للإزاحة والاستلاب.
كل عام وأنتم بخير…
احمد عبد اللاه