مقالات وكتاب
” اليوم التالي”
لا يجب أن يكون الحديث عن ” اليوم التالي” بمثابة قفز متعمد فوق كارثة دمار غزة وجراح ومعاناة وآلام أبنائها .
المحتوى الذي يتضمنه الحديث يبدو وكأن الأمر يقصد به سحب وعي العالم ، المأخوذ ببشاعة المشهد ، والمستغرق في مأساة العصر ، وجره إلى محطة افتراضية ينشغل فيها هذا الوعي بتسطيح هذه المأساة ومحوها من الذاكرة باعتبارها مجرد حلقة في صراع طويل لا قضية له ولا محتوى .
يهرب هذا الحديث من حقيقة أن هذا الصراع يقف فوق مأساة شعب طرد من أرضه ، ونهبت حقوقه ، واستخف بانسانيته ، وتم تجاهل مقاومته وتضحياته ، إلى جزئيات لا تمت بصلة لتاريخ وجذر هذا الصراع ، ودور الدول الكبرى في رعاية ذلك الصراع كجزء من سياساتها التي تقوم على حقن العالم بمشكلات تجعله في حاجة مستمرة لتدخلها بأدواتها السياسية والعسكرية .
وهي لا تتذكر حاجة العالم إلى السلام إلا حينما يذكرها بذلك اشتعال هذا العالم بالحروب ، أو تحت ضغط الرأي العام ، الذي شكل موقفه من الحروب علامة فارقة بين الشعوب ونخبها الحاكمة . فلو أن هذه النخب جعلت من السلام هدفاً ملازماً لتلبية حاجة البشرية الى الاستقرار والرخاء والتعاون والتفاهم والتعايش بعدالة لا يكدرها التقسيم غير العادل للثروة لما قامت الحروب من الأساس .
ومع ذلك فإن الحروب ، وقد أصبحت حقيقة من حقائق الحياة في عالم لم يعمل كل ما يجب عمله من أجل السلام ، وما يصاحبها من كوارث وآلام ، فإنها غالباً ما تخلق على نحو موازٍ لها الظروف المناسبة لحل أكثر القضايا البشرية تعقيداً ، لأن الحرب هي آخر ما يستطيع العقل البشري أن يقوم به من اختراق إلى قلب المشكلة بهدف إيجاد الحل الذي كان يبدو في غاية التعقيد قبل الحرب . وتتوقف المسألة هنا على رغبة القوى ، التي وُضِع بيدها مصير العالم ، في توجيه بوصلة الحرب .
إن الحديث بصورة انتقائية عن كيفية ادارة غزة بعد الحرب ، يعكس فهماً مغلوطاً للحقيقة ، وكأن ما يجري في غزة معزول عن القضية الأساسية وهي احتلال فلسطين ، وكفاح شعبها المتواصل والطويل من أجل الحرية واستعادة دولته .
هنا تكمن الحقيقة التي يجري تجاهلها ، وهي أن القضية التي ارتبطت بها هذه الحرب ، وهذا الدمار الهائل ، والعنف الذي لم يتوقف منذ ٧٥ عاماً لا بد أن تكون محور الحديث عن “اليوم التالي”، أي حق الفلسطينيين في الحصول على حريتهم ، وإقامة دولتهم بموجب قرارات الشرعية الدولية . وبدلاً من الانتظار حتى يفرغ من تدمير غزة ، وسفك دماء الفلسطينيين ليقرر المجتمع الدولي بعد ذلك الخطوة التالية ، فإن أمام العالم ، ومنظماته الدولية ، وقواه الحية ، والقوى العظمى الرابضة فوق كومة من أشلاء العالم التي لا حول لها ولا قوة ، خيار الانطلاق من جذر المشكلة ،وحلها وفقاً لقرارات الشرعية الدولية .
فلا يكفي أن يلوك البعض مصطلح حل الدولتين وكأنه حل خرافي مجهول الأبعاد ، ومفرغ من الزمن ، ليبدو وكأنه مؤجل إلى ذلك الحين الذي يسمح به الاحتلال ، بل لا بد من فرضه كحل لانهاء الحرب ، ومعه تصفية أسباب العنف والصراع ، وإكساب مفهوم “اليوم التالي” بعداً واقعياً لا مراوغاً ، ومعنى منهجياً يعيد للقوة مضمونها الانساني المرادف للسلام واحترام حريته وحقوقه وكرامته .