المصري الذي لم يغادر عدن
كلما ذكرت عدن يذكر الزعيم العربي جمال عبدالناصر، فمتلازمة الوجود لا يمكنها أن تتوارى حتى وإن تباعدت الأزمنة غير أن زاوية أخرى يمكن استدعاؤها في هذا التوقيت، عند العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 نظر المصريين للخارطة ولكنهم للمرة الأولى يشاهدونها والطائرات تغير عليهم وترمي بقذائفها عليهم، قناة السويس كانت مفتاحاً للاستقلال الوطني المصري باعتبار أن جلاء الاستعمار البريطاني عنها منح البلاد فرصة الاستقلال والحرية وهي الأهم من كل تلك المصطلحات المتعلقة بالسيادة الوطنية.
الزعيم جمال عبدالناصر وهو ينظر إلى الخارطة رأى أنه لا يمكن للسيادة المصرية أن تكتمل دون إرغام البريطانيين على أن ينسحبوا من عدن، توافقت الرؤية الآنيّة عند ظرفية العدوان مع جموح التيار القومي المنتشي بعد ثورة الضباط الأحرار في 1952، ولم تكن المستعمرة البريطانية عدن مجرد موقع عادي في التكوين الجيوسياسي الدولي آنذاك، فلقد كانت تمثل درة تاج المستعمرات البريطانية فلطالما تباهى الإنجليز بأنها نسخة من عاصمتهم لندن، ورغماً عن هذه الرمزية فإن أهالي المدينة كانوا متحفزين لانتزاع استقلالهم مدفوعين بمكنونهم الثقافي التحرري، كما أن جيلاً من المتنورين الوطنيين كانوا قد بدؤوا في مواجهة المستعمرين لبلادهم.
جمال عبدالناصر كان مؤمناً أن لا سيادة للمصريين على قناة السويس بغير سيادة الجنوب العربي على عدن، هنا يتجلى المفهوم المطلق للأمن القومي العربي فهذا التكامل يحدد إطار التعريف وعليه اندفعت القيادة المصرية لتقدم دعمها لقوى التحرر الوطني في عدن، النقابات العمالية شكلت حواضن لمجاميع المقاومة الشعبية في خمسينيات القرن العشرين داخل عدن لكنها كانت ممتدة على امتداد مساحة الجنوب العربي، ومع أن قادة الحركة الوطنية السياسية كانوا يفاوضون على الاستقلال، إلا أنه على الأرض كانت تحتدم المنافسة بين «جبهة التحرير» و«الجبهة القومية».
مع فشل القوات البريطانية في احتواء الانتفاضة الجنوبية دفعوا بالكولونيل كولين ميتشل قائد الكتيبة «أرجيل ساذرلاند هايلاندرز» ليهجموا على عدن في تمام السابعة مساء الثالث من يوليو 1967، كان أهالي عدن يطلقون على الكولونيل عبارة «ميتشل الطائش»، بينما الصحافة البريطانية كانت تصفه بـ«المجنون» لتصرفاته العنيفة والطائشة، ولتهديده بتفجير رؤوس المقاومين.
وكانت حادثة قتل أربعة رجال جنوبيين بطلقات من بندقيته، قد أشعلت الشوارع، ومعها فتحت مخازن الأسلحة المصرية للثوار، مما فتح حرب شوارع كبدت البريطانيين خسائر في الجنود والمعسكرات.
الكمائن التي نصبها الثوار الجنوبيون أفقدت القوات البريطانية صوابها حتى إن الكولونيل «ميتشل» خرج مرتدياً قبعة اسكتلندية في إشارة إلى أنه لن يرحل عن عدن، وبرغم أن الأرشيف البريطاني ما زال يحظر نشر وثائق استعمار عدن بما فيها فترة ما بعد ثورة 14 أكتوبر 1963 فإن شهادات لضباط البحرية الملكية البريطانية أفادت بأن التعليمات برغم قرار الجلاء كانت صارمة بمعاملة الثوار.
في المقابل كانت المخابرات المصرية نشرت شهادات أكدت الانتهاكات البريطانية ووصفت بشاعتها كما نشرت وثائق لتسليح الثوار الجنوبيين وتقديم الخطط العسكرية لهم وحتى علاجهم. الحكومة البريطانية التي كانت تفاوض قيادة الجبهة القومية طلبت «هدنة إجبارية» لتتمكن قواتها من الجلاء، مع انسحاب الجنود البريطانيين انكشفت حقيقة ما في وراء الأسلاك الشائكة في معسكراتهم فلقد كان الآلاف من الثوار الجنوبيين مسجونين فيها، الهزيمة البريطانية في عدن شكلت في الواقع السياسي العربي متغيرات كبرى فلقد حققت دول الخليج العربية استقلالها الوطني، كما أن وفد الجبهة القومية عاد إلى عدن مظفراً معلناً الاستقلال الأول لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من عدن إلى المهرة.
عناد الزعيم جمال عبدالناصر وإصراره ما زال حاضراً ليس في الذاكرة الوطنية فحسب بل في الذاكرة الشعبية وما زالت كلماته برغم رحيله تشحن جيلاً آخر يكتب الاستقلال الثاني.. المصري لن يغادر عدن للأبد فهو ابنها البار بها أبداً.