«كنت شيوعياً»
مع انعقاد المؤتمر المئوي للحزب الشيوعي الصيني تذكرت كتاب شاعر العراق العملاق بدر شاكر السياب المعنون بـ (كنت شيوعياً). فالمشهد المعاصر للصعود العالمي للصين يضعنا مجدداً أمام تاريخنا السياسي بكل تجلياته ونتائجه في لحظة وعيّ تبدو وكأنها مواتية للحالة العربية الراهنة، بل والمرتهنة لإفرازات حقب تاريخية تصارعت فيها الأيديولوجيات، دونما إدراك للنتائج التي تحصدها مرارات. يقول المثل الصيني «ليس مهماً أن يكون القط أسود أو أبيض ما دام يصطاد الفئران»، هذا ما يلخص الفلسفة الصينية وعلاقتها بالشيوعية والرأسمالية، فتجربة الصين قد تعلّمت الاستفادة من الغرب وتجاربه منذ أواخر السبعينيات وانتهاء بالثورة الثقافية ووفاة الزعيم ماوتسي تونغ، فإنها ظلّت خلال أربعة عقود، محكومة بعنصرين أساسييّن، هما حكمة الصين وحضارتها وفلسفاتها التاريخية ممثّلة بالكونفوشيوسية والتاوية، والفلسفة الماركسية-الشيوعيّة برمزّيتها الصينية، مع عنصر جديد هو محاولة إضفاء نزعة إنسانيّة عليها والتخفيف من عبء الماضي. الشيوعيون العرب كانوا جزءاً من حركة التحول، بل شكلوا القوة الأكثر فاعلية من بعد الثورة العربية الكبرى أوائل القرن العشرين، وكانوا القوة الدافعة لحركات التحرر الوطنية من الاستعمار الأجنبي، وهو ما جعلهم ينخرطون في الفعاليات المجتمعية، التي شكلت التوجهات السياسية العربية سواء في حركة القوميين العرب، أو غيرها من التوجهات اليسارية الطاغية في تلك الفترة التاريخية. أدت الصراعات على السلطة في الأقطار العربية إلى فوضى سياسية أسهمت في منح تيارات الإسلام السياسي السُنية والشيعية الفرصة للتغول في المجتمعات العربية حتى العام 1979، الذي أحكمت فيه الإسلاموية قبضتها على العقل العربي وأخذته لمسالك المهالك، لم يكن مطلوباً من الشيوعيين اللهاث خلف السلطة، كما لم يكن عليهم تطبيق نظريات كارل ماركس وفريدريك أنغلز بحذافيرها في مجتمعات لها تراثها وتقاليدها العريقة. توحيد العمال والفقراء بما سماهم ماركس بالبروليتاريا لإسقاط أنظمة الحكم كانت نظريات لا يمكن تنفيذها على كل الشعوب وهذا ما استشعره ماو تسي تونغ، بعد أن تولى زعامة الحزب الشيوعي الصيني، وأطلق بما يمكن توصيفه بالمراجعة الفكرية، ليعيد إنتاج الماركسية اللينينية بنسخة تلائم واقع الصين التي كان ينظر إليها دولة تمتلك أيادي عاملة رخيصة، وهو ما استثمر فيه ليحولها لنقطة قوة للدولة حتى باتت بالفعل قوة عالمية. اليساريون العرب حتى وبعد نكسة يونيو 1967، لم يتراجعوا عن النظريات الماركسية، بل إنهم زادوا دفعاً بها في مجتمعات لا يمكنها أن تستبدل دياناتها المقدسة، كما أن النظريات الاشتراكية تفتقد للواقعية الوجودية، وهي ما أنهت لاحقاً الاتحاد السوفييتي بعد أن استفزّ معتقداتٍ يساريةٍ أنهكته من داخله حتى تفكك بسقوط جدار برلين. العرب لم يستوعبوا كل تحولات الواقع السياسي العالمي، وظلوا في مواقعهم الخاسرة حتى انحسروا، ولم يخرجوا بمراجعات يمكنها أن تعيدهم للمشهد المعاصر. العرب بأيديولوجياتهم الإسلامية واليسارية يعتقدون أن المراجعة هي جلد للذات لتبرير الخيبات والهزائم والانكسارات، فكذلك فعلت الجماعة الإسلامية في مصر ليخرج أفرادها من السجون بعد اغتيال السادات ثم أنتجوا تنظيمات «القاعدة» و«داعش»، وكذلك فعلت التيارات المذهبية الشيعية بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق. المعضلة في العقل العربي الذي يرفض التدقيق في واقع الحال، وعليه أن يكون براغماتياً يستطيع توظيف إمكانياته الفردية في أوطان يمكنها أن تخرج من ضيق الأزمات المصنوعة بعقلية انهزامية لا تؤمن بتعاقب الأجيال، وأن لكل جيل دوراً يؤديه نحو وطنه في التنمية بكافة أشكالها الفكرية والسياسية والاقتصادية، وألا أحد يمتلك حصراً الحقيقة المجردة دون غيره في الوطن الواحد. «سياب» العراق وشاعرها الكبير كان جريئاً وهو يقدم كتابه (كنت شيوعياً)، بينما المتأسلمون مازالوا يراوغون ويكذبون وينافقون.