هل دمر جورباتشوف الاتحاد السوفييتي؟ (1)
توفي منذ أسبوع (30 أغسطس الماضي) الرجل الذي أثار من الجدل ما لم يثره سواه في أواخر القرن العشرين.
إنه ميخائيل جورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، وآخر زعماء المعسكر الاشتراكي، فبعده لم يعد هناك اتحادٌ سوفييتيٌ ليرأسه أحد ولا معسكرٌ اشتراكيٌ ليتزعمه أحد.
الحديث عن جورباتشوف يستدعي تعمقاً كبيراً بحجم ودلالة الأحداث العظيمة والمزلزلة التي كان الرجل سبباً أو مشاركاً في التسبب بها أو شاهداً عليها.
وبعيداً عن النظريات والتحليلات التي تستخدم مفردات “المؤامرة” و”العمالة” و”الاندساس” وغيرها من التعبيرات التي تفتقر للبرهان وتتكئ على الشعبوية والتهييج العاطفي أو تنطلق من روح المزاج أو التحيز مع أو ضد الرجل سأحاول هنا الغوص في خلفيات الأحداث التي جاء في ظلها أو في إطارها أو منها جورباتشوف ونظريته المعروفة “البيريسترويكا” و”الجلاسنوست”، والاولى تعني باللغة الروسية وبعض اللغات الصلافية إعادة البناء أو إعادة الهيكلة، والثانية تعني العلنية أو الشفافية.
لمحاولة الوصول إلى حقيقة ما جرى منذ العام ٨٥م عام صعود جورباتشوف إلى زعامة الحزب الشيوعي والدولة السوفييتية، لا بد من الإلمام بالحالة السياسية والاقتصادية في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية السابقة، (دول حلف وارسو العسكري ومجلس التعاضد الاقتصادي الاشتراكي).
يرى بعض المتابعين لصيرورة الأحداث في الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان الاشتراكية السابقة أواخر القرن العشرين، أن المنظومة الحاكمة في الاتحاد السوفييتي، وهو المدماك الرئيسي للمنظومة الاشتراكية وعمودها الفقري، قد بلغت الشيخوخة منذ وقتٍ مبكر، وأن مسألة انهيارها كانت مسألة وقت، ولم تكن الشيخوخة شيخوخة القادة فقط، بل كانت شيخوخة النظام والمنهاج والفكرة والممارسة، لكن للتيقن من دقة هذه المقولة لا بد من التعرف على تفاصيل المشهد والذي لا تشير بالضرورة إلى أن سقوط الاشتراكية في هذه البلدان كان أمراً حتمياً وأن الكثير من البدائل كان يمكن اللجوء إليها دون الوصول إلى حالة الانهيار المدمر الذي وصلت إليه هذه البلدان.
لقد كان ليونيد بريجنيف أطول الرؤساء السوفييت عمراً بعد ستالين في آخر أيامه يستقبل الوفود والرؤساء وهو فاقد القدرة على الحركة والتركيز وتسجيل مواقف مميزة كقائد سياسي وزعيم دولة عظمى كالاتحاد السوفييتي، وعند وفاته جاء يوري اندروبوف الرجل الديناميكي الصارم لكنه لم يكمل على رأس السلطة سنتين، حتى جاء موته في ظروف غامضة لم يكشف عن أسرارها حتى اللحظة، أما الرئيس قسطنطين تشرينيكو الذي خلف اندروبوف فلم يكن يقل عمراً عن بريجنيف ولم يدم في الحكم سوى عامٍ وبضغة أيام حتى توفى بالسكتة القلبية، مع ما لهذه التبدلات من تأثير في إرباك الحياة السياسية والاقتصادية التي لم تكن تخلو من أسباب الاضطراب والإرباك أصلاً، وقبل وفاة تشيرنينكو كان الحديث يدور عن تهيئة حيدر علييف القائد القادم من أذربيجان الآسيوية، لزعامة الحزب والدولة لكن يبدو أن مراكز صناعة القرار في رئاسة الاتحاد وقيادة الحزب والـ kgb كانت ما تزال تستدعي تجربة تزعيم الآسيويين وميراث جوزيف ستالين الذي لم يكن يخلُ من حالات كارثية، رغم الأحداث والإنجازات والمواقف العظيمة التي ارتبطت باسم ستالين، كبناء القوة العسكرية المتميزة وإنتاج السلاح النووي وإعادة إعمار جمهوريات الاتحاد بعد الحرب العالمية الثانية وإلحاق الهزيمة بالنازية وتقنيات غزو الفضاء وتوقيع اتفاق يالطا مع الزعيمين الأمريكي روزفلت والبريطاني تشيرشل، ودعم حركات التحرر الوطنية العالمية وبناء المعسكر الاشتراكي، وتشييد القاعدة الصناعية التكنيكية التي جعلت من الاتحاد السوفييتي القوة العسكرية والاقتصادية والتكنيكية والسياسية الثانية في العالم، بيد إن عيباً واحداً ـ كما جرت العادة ـ يكفي، بنظر العامة من الناس ومعهم المؤرخون ذوي المواقف العدائية لهذا الزعيم أو ذاك ولهذا النظام أو ذاك، يكفي لشطب كل العطاءات والتميزات والمواقف العظيمة، ونعلم أن ملف جوزيف ستالين لم يكن خالياً من عشرات العيوب التي يقر بها الجميع بما في ذلك محبوه.
لقد جاء صعود ميخائيل سيرجييفيتش جورباتشوف في ظل ظروف داخلية وخارجية هي الأكثر تعقيداً ربما منذ نشوء المعسكر الاشتراكي بعيد الحرب العالمية الثانية ودخول العالم في ما عرف بـ”الحرب الباردة” المصطلح الذي استخدمه لأول مرة داهية السياسة البريطاني ولنستون تشرشل.
* كان اليمين الرأسمالي قد بلغ أوج ذروته بصعود رونالد ريجن، صاحب مشروع “حرب النجوم”، على رأس الحكم في الولايات المتحدة الامريكية ، ومارجريت تاتشر المحافظة اليمينية التي ارتبط اسمها بتدمير الحركة النقابية البريطانية وحرب الفولكلاند على الارجنتين والتعامل الحديدي مع مطالب الشعب في أيرلندا الشمالية، كما صعد غير هاتين الشخصيتين على رأس العديد من الدول الرئيسية في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
* صعود اليمين الرأسمالي المعادي بقوة للاتحاد السوفييتي، تزامن مع حدوث تراجع ملحوظ في معدل النمو الاقتصادي وتراجع الناتج القومي الإجمالي في الاتحاد وجمهورياته واشتداد نزعة الكراهية الصامتة للاتحاد السوفييتي وحزبه الشيوعي والفكرة الاشتراكية بشكل عام في العديد من بلدان المعسكر الاشتراكي، فلم تكن حركة “ربيع براغ” في تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية عام ٦٨م هي الوحيدة بل كانت قد سبقتها أحداث ما عُرِف بـ”ثورة الأمل” في بودابيست عاصمة المجر أواخر العام 1956م والحدثان جرى إخمادهما بقوة السلاح السوفييتي، لكنهما مثلا بداية لحالة سخط غير معلن اخذ في التنامي في بعض بلدان حلف وارسو كما جاءت حركة “التضامن” التي شهدتها بولندا لتمثل تجلياً واضحاً لأزمة النظام الذي بناه السوفييت وحلفاؤهم الشيوعيين في بلدان أوروبا الشرقية، حيث إن حركة “التضامن” البولندية النقابية في مظهرها والسياسية في مضمونها، قد أجبرت الحكومة الاشتراكية هناك على الإذعان لمطالب العمال، وعقد اتفاقات تتضمن تنازلات عن أمور مبدأية في النهج الاشتراكي التقليدي المعروف، مثل الزعامة المطلقة للحزب الشيوعي، والسيادة المطلقة للاقتصاد الاشتراكي، وعدم السماح بقيام نقابات ومنظمات جماهيرية ليست خاضعة للنهج والسياسة الاشتراكيين، وقد اتسعت حركة “التضامن” لتصبح مع نهاية الثمانينات أقوى منظمة (نقابية-سياسية) ليس فقط على مستوى بولندا بل وعلى مستوى كل البلدان الاشتراكية وربما على المستوى الأوروبي.
وكان قد سبق كل هذا خروج صامت عن بعض القيود الاشتراكية المألوفة من قبل النظامين الاشتراكيين العتيدين في كل من رومانيا برئاسة نيكولاي تشاوشيسكو والاتحاد اليوغوسلافي برئاسة جوزيف بروس تيتو ثم سلوبودان ميلوشيفيتش، مثل هذا الخروج علامة عدم رضى عن النهج السوفييتي الذي يفترض أنه يمثل النموذج الأمثل لكل البلدان الاشتراكية.
هذه ألأحداث والتطورات في بعض البلدان الاشتراكية لم تكن معزولة عن بعضها بل لقد دلت دلالة واضحة على حالة من الشيخوخة السياسية والاقتصادية في النهج المتبع من قبل القيادة السوفييتية والمنقول بشكل شبه ميكانيكي لبقية بلدان حلف وارسو ومجلس التعاضد الاقتصادي.
* وكان تورط الجيش السوفييتي في أفغانستان عاملاً شديد التأثير في استنزاف القوة السوفييتية واستدعاء المزيد من عوامل الضعف والإنهاك للاتحاد وللتجربة الاشتراكية عموماً، فقد حشدت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها جميع دول حلف الناتو كل طاقاتها لتجنيد الجماعات الإسلامية المتشددة لمحاربة الوجود السوفييتي هناك بعد أن عمم الإعلام الإمريكي والغربية حالة من الترهيب والفوبيا بين دول العالم العربي والإسلامي تحت حجة “الخطر الشيوعي على الدين الإسلامي” وجرى توظيف المال العربي والشباب العربي والإسلامي لمقاومة الوجود السوفييتي في أفغانستان تحت شعار “حماية الإسلام من الخطر الشيوعي السوفييتي”، وهذا بطبيعة الحال لا يعفي القيادة السوفييتية حينها من ارتكاب حماقة التورط في أفغانستان دونما اعتبار للنتائج المفترضة والتي أثبتت الأيام فيما بعد أنها كانت وخيمة وقاتلة.
كل هذه التطورات صار لها تداعياتها العاصفة ليس فقط على الجيش السوفييتي بل لقد تظافرت هذه العوامل كلها مع الأزمة الاقتصادية ومع حركات التململ الصامتة والاحتجاجات المعلنة لتخلق بيئة قابلة لاشتعال نار الرفض والانهيار التي كان جورباتشوف صاحب أول عود ثقاب في اشعالها.
هل كانت هذه العوامل كافية لسقوط الاتحاد السوفييتي؟
من غير شك أن هذه العوامل وعوامل داخلية وخارجية أخرى مثل التعدد القومي في جمهوريات الاتحاد ونظام الحزب الواحد وتململ الناس من غياب الديمقراطية، مقابل الحملات الإعلامية الغربية الشديد الإغراء والتأثير على عقلية ونفسيات المواطنين السوفييت ومواطني بقية البلدان الاشتراكية، من غير شك أنها قد أثرت تأثيراً مباشراً على صيرورة العملية السياسية والاقتصاد في الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان الاشتراكية (السابقة)، وساهمت في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه لكن السؤال هو هل كانت الصيغة التي جرت عليها الأمور في الاتحاد وشريكاته من الدول في أوروبا الشرقية حتمية ولا مفر منها؟
من المنظور الفلسفي والسيسيولوجي والسياسي ما من مشكلة إلا ولها العديد من الخيارات للحل ولا توجد مشكلة تحل عن طريق خيار واحد وحيد فقط فكل المشكلات توضع أمام مختبر الفحص والتدقيق وقراءة المعطيات ودراسة الخيارات واختيار أقلها كلفةً وأفضلها نتائجَ وأقصرها أمداً في التنفيذ، فهل هذا ما جرى مع أزمة المنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وحليفاته؟
ذلك ما سنتوقف عنده في وقفة قادمة من هذه التناولة المتواضعة، فانتظرونا