(بيت الشيخ)..نموذج لهوية معمارية فريدة !!
” بيت الشيخ”.. هو الاسم الذي يُعرف به ذلك القصر الأثير والقديم الذي يمتد عمره حوالي سبعة قرون مضت، وتؤول ملكيته لآل يحيى، شيوخ مكتب المفلحي في يافع ، وهو يتوسط الجزء القديم في حاضرتهم “الجُربة” على مقربة من المسجد الجامع القديم بنمطة اليافعي التقليدي الأصيل الذي بقي عليه حتى اليوم، وكان القصر بمثابة مقر الحُكم والتَّحكيم في العهد القبلي، الذي أدارت وحكمت فيه يافع نفسها بنوامسيها وأعرافها وأسلافها الخاصة ، بعيداً عن أي سلطة مركزية، ودون أن تطأتها قدم أي احتلال أجنبي، بما في ذلك الزيدي أو الإنجليزي.
ومثل المئات من القصور القديمة المماثلة التي هجرها أصحابها إلى بيوت حديثة، ما كان لهذا القصر أن يلفت الانتباه أو يثير الاهتمام، لولا تلك المبادرة الرائدة ، غير المسبوقة، التي أقدم عليها مُلاك دار آل يحيى، مشائخ مكتب المفلحي فقد عز عليهم أن يُترك هذا الصرح التليد، الذي شيده الأسلاف العظام، وتعاقبت على سكنه الأجيال، عرضة للاهمال ينخر في بنيانه المتين، فتداعوا لترميمه وإعادة الحياة إليه، خاصة بعد ظهور بوادر التشققات والتصدعات في بعض واجهات جدرانه الخارجية التي كادت أن تقود إلى انهياره إذا ما استمر الإهمال، ولذلك سارعوا للاستعانة بالبنائين المَهَرة من أبناء المنطقة لإعادة ترميمه، حسب شكله الذي كان عليه، باستخدام نفس حجارته الأصلية واتباع التقنيات التقليدية نفسها، والحفاظ عليه كما كان في هيئته الأصلية من الخارج، بما في ذلك النوافذ الخشبية بفتحاتها وزخارفها المحفورة في صميم الخشب، وكذا الزخارف والنقوش الخارجية المختلفة من حجارة (المَرو) بروعتها ورونقها التي تبدو في واجهة البيت أشبه بقلادة فضية كتلك التي تزين جيد المرأة الفاتنة، فتبدو بأبهى حلّة تأسر ألباب النّاس. كما تم إعادة تشييده وتقسيمه من الداخل بما يتناغم مع التقاسيم والنقوش الداخلية الأصيلة، وكذلك بما يلبي متطلبات الحياة العصرية.
ما دفعني للحديث عن هذا القصر مجددا، بعد أن تحدثت عنه في كتابي (فنون العمارة الحجرية في يافع) كنموذج يقتدى به في ترميم القصور القديمة، هو أن مايسترو الترميم وصاحب المبادرة الشيخ عبدالحكيم أحمد سيف المفلحي ، لم يكتفِ بإعادة القصر إلى هيئته الأولى، بل قرَّر أن يضيف جديداً على الملحقات، وخاصة السور الملحق بالقصر، حيث يتم الآن إعادة بنائه بنمط يتسق وينسجم مع شكل عمارة القصر وزخارفه، وهي بادرة جديدة لم يسبقه إليها أحد، وحجته في ذلك، كما قال:” إن أحواش البيوت القديمة قد تخلت عن وظيفتها القديمة ولم تعد هناك حاجة للجلوب والأعكام كمأوى للبقر والمواشي، ولذلك أصبح السور جزءاً من حرم البيوت واصبح لزاماً ان يظهر بشكل يليق بالزخارف التقليدية”.. وها هو على وشك الانتهاء من إحاطة القصر بسور جميل متناغم ومتناسق مع بناء البيت وحجارته ونقوشه وكأنه جزءٌ حميم منه وليس جداراً ملحقاً بحجارة عشوائية غير متناسقة ولا مترابطة.
قلت له: سيبدو القصر أكثر روعة أيضاً حين تزينه التشاريف عند استكمال ترميمه، لاسيما وأن التشاريف معلم بارز يتوج العمارة اليافعية، وأنت ما شاء الله سباق في الحفاظ على التراث الأصيل.
وعلمت منه أنه ماضٍ بمبادرته وصولاً إلى تتويج القصر بأكاليل (التشاريف)، رغم أن أمر ترميم الديار العتيقة –كما قال- منهك جداً ويتطلب الحرص والمتابعة في جميع خطوات الترميم، إلاَ أنه يمتلك الآن خبرة تراكمية في الترميم تفوق خبرة أكبر المقاولين، والأهم من ذلك امتلاكه الوعي والحماس لما يقوم به من عمل نبيل للحفاظ على إرث حضاري تتفاخر به الأجيال.
كما أتمنى أن نرى قريباً القصر محاطاً من الأعلى بما يسمى “المسعى” أو “الرَّيْش” أو “المسنح”، حسب تسمياته المختلفة في يافع، وهو البناء الإضافي الذي يحيط بسطح البيت اليافعي، ويرتفع أكثر من متر، ومفتوح إلى السماء، وهو يوفر الستر لأفراد الأسرة أثناء راحتهم أو جلوسهم في السطح، كما يقي الأطفال من خطر السقوط من أعلى البـيــــت، وفي زوايا المسنح ترتفع إلى الأعلى(التشاريف) التي تدل على اكتمال بُنيان القصر وتتويجه بأكاليل الشرف والمجد.
ولا باس أن وضعت في قرنةُ البيتِ أو القرينة ، وهي زاويتهُ، بمحاذات التشريفة، صفيحة قوية من الحجارة توصل بين جداري الركن أو الزاوية، وهي ما تُسمى (الصنيفة/الصّلئ/المُصلأ)، وتستخدم للجلوس عليها بأريحية تامة في الهواء الطلق والإطلال منها على الخارج.
إن هذه المبادرة الرائدة تستحق الاعجاب والتقدير وينبغي الأخذ بها وتعميمها في بقية المناطق، وقبل ذلك لا بد من امتلاك الوعي بقيمة مثل هذه الترميمات للقصور القديمة، خاصة من قبل المقتدرين والميسورين، لا سيما وأن الكثير من هذه القصور الأثرية التاريخية تتعرض للاهمال والتدمير المتعمد، وتُنهب احجارها لاستخدامها في المباني الجديدة، ولا بد من نشر الوعي بين الناس لإدراك قيمتها التاريخية وعدم العبث بها والحفاظ عليها وعلى بقية المعالم المعمارية القديمة، فهذه آثارنا تدل علينا.
وختاماً.. تحية تقدير للرجل النبيل عبدالحكيم المفلحي ولكل من يقتفي به ويتّخذه مِثالاً في ترميم مثل هذه القصور الضخمة التي يحق لنا أن نفخر بها وأن نرفع قبعاتنا إجلالاً لأصحابها، لحفاظهم على العراقة والأصالة التي تتهددها الآن العمارات الاسمنتية الخرساء والجوفاء.