الأبجدية الحضرمية.. ديمومة الهوية
يحتضن متحف اللوفر الفرنسي قطعة أثرية تاريخية تعد هي الأقدم لخط المسند العربي وجدت في منطقة الشحر جنوب حضرموت وهي مدينة ساحلية على بحر العرب، الدلالات لتلك القطعة تعيد الجدلية التاريخية حول هوية العرب ومكان نشأتهم وظهورهم الأول، وفيما وثقه العلامة جعفر السقاف باستقصائه في البحث عن الأصل اللغة العربية، فإنه اهتدى إلى أن بلادهم هي الأحقاف وهي البلاد الممتدة من ظفار وحتى وتحاذي البحر جنوباً وتمتد حتى جنوب صحراء الربع الخالي (الصحراء العربية). يحتوي مركز أبوظبي للغة العربية عدداً من البحوث التي ترجح أن مهد العرب في بلاد الأحقاف استناداً لقول الله تعالى في سورة الاحقاف الآية -21- (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)، ونبي الله هود هو أول الأنبياء من بعد الطوفان العظيم الذي أهلك قوم نبي الله نوح. وبكل الدلالات فإن لغة قوم هود كانت العربية وهو ما تؤكده المدلولات المادية من نقوش حجرية التي عثرت عليها الرحلات الاستكشافية البريطانية والسوفييتية في القرن العشرين. مهد العرب وموطنهم الأول تظل في بلاد الأحقاف وهي الأرض التي سبقت ظهور حضرموت وهي التسمية التي ورد ذكرها في التوارة، وجاءت في سفر التكوين على أنها اسم لأحد أبناء قحطان. والثابت أنه أحد رجالات الممالك العربية الجنوبية القديمة وهو من نسل قحطان، وقد سبق قوم هود حضرموت وجوداً في تلكم البلاد. وعليه فإن الأحقاف هي أرض العرب ومهدهم الأول، وما جاء غير ذلك لم يثبت بوقائع المادة وتظل مجرد أساطير سجلتها كتب التراث غير المعتد بمرجعيتها، وتحتاج إلى كثير من الجدية في فحصها. تناسل العرب وتمكنت تلك البلاد من أن تكون مهداً أصيلاً للمذهب الشافعي بعد القرن الثالث الهجري الموافق للثامن الميلادي على أثر نزول أحمد بن عيسى المهاجر، فلقد سكن في الوادي الحضرمي، وأطلق دعوته بين الناس الذين التفوا من حوله، وتشكلت من محيطه مراكز العلم والدعوة، وتحالفت القبائل في جنوب جزيرة العرب مع دعوته وكانت وما زالت في أحلافها دفاعاً عن الدعوة الشافعية التي اشتهرت بأنها المدرسة الحضرمية المعتدلة، وهي التي توزعت في الأمصار والأمم، فأثرت في الدعوة إلى الإسلام وبلغت شهرتها أقاصي الأرض ومغاربها. البيئة الحضرمية صنعت الهوية التي صبغت سكان جنوب جزيرة العرب وحفزتهم دائماً على أن يشكلوا درعاً حامياً للدعوة الشافعية من غزوات الزيدية التي لم تتوقف منذ نشات في الهضبة اليمنية وظلت تحاول التمدد على أرض الشوافع الممتدة من باب المندب وحتى أطراف ظفار، حتى مع نشوء الدول الوطنية في القرن العشرين الفائت ظلت غريزة الغزو والتمدد الزيدي قائمة، ولم تتبدل فيما ظلت الشافعية قادرة على الصمود الحضاري. صراع الهويات في جنوب جزيرة العرب بين الهوية الحضرمية واليمنية وإنْ تغلّف بالغلاف السياسي إلا أن جوهره المذهبي لا ينطفئ، ولا يخمد تحت كافة المسوغات، فصراع القرون والأزمنة سيظل عنصر الوجود كما يقول المؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف، وكما يعززه أمير البيان شكيب أرسلان في مفهوم الوجود الحضاري وفك ارتباط الهوية الحضرمية عن اليمنية. اليمننة هي مشروع سياسي مرفوض في جغرافية جنوب جزيرة العرب بكل ما في هذه الجغرافيا من التنوع الحضاري الفريد الطاغي فكراً وتأثيراً في الشعوب والأمم والقادر دائماً على التجدد حتى في ظل حدة النفوذ السياسي اليمني المعاصر الذي فشل وانهزم أمام انبعاث الهوية الحضرمية.