من على ضريح صاحبة الجلالة.. رسالة إلى قناة الجزيرة
القنوات الإخبارية على اختلاف مشاربها تابعت مقتل مراسلة الجزيرة شيرين أبوعاقلة في تغطيات مفتوحة فهو حادثة لامست المهنة قبل أن تلامس أي شيء آخر وللمهنة الصحافية ضمير هو الذي يتألم ويتوجع.
لن تكون شيرين أبوعاقلة آخر المغتالين من قوافل ممتدة من الصحافيين، فقدر الصحافي أن يكون شاهد الإثبات الأول لكل الحوادث في هذه الدنيا. فهذه هي الوظيفة الوحيدة التي يعمل فيها الموظفون بكل ما حملوه من علوم ومعارف، والأهم من ذلك ما تعلموه من أهلهم وبيوتهم من تعاليم وقيم ومبادئ، تضاف إليها الأعراف والتقاليد والقيم السامية والنبيلة التي يعيشها الصحافي بفطرته، وهو ما يكون مهنيته الصحافية لتجسدها من بعد ذلك المؤسسات بكل توجهاتها وأهدافها.
مند اللحظة الأولى لمقتل الزميلة شيرين اختبرت المؤسسات الإعلامية مهنيتها وقيمها، فقطعت قنوات سكاي نيوز عربية، والعربية، والحدث، وروسيا اليوم، وهي القنوات الإخبارية العربية الأكثر تنافسية في ما بينها، برامجها المعتادة لتبث الحدث الأهم وهو خبر مقتل الصحافية شيرين أبوعاقلة، فهذا خبر تختبر فيه القيم والأعراف للمؤسسات الصحافية. ومهما كانت طبيعة المحطة الإخبارية التي تعمل فيها شيرين، إلا أنها تظل زميلة مهنة ورفيقة مسلك عسير لا يعرفه إلا الذين سلكوه. فالصحافة وظيفة لا متسع فيها للراحة والاسترخاء، بل مهنة مملوءة بأوجاع ومتاعب لا يعرف حجمها إلا العاملون فيها.
القيم والمبادئ لا يمكن أن تتجزأ؛ هي سلوك تترجمه أفعال على قناة “الجزيرة” القطرية أن تراجعها. فهذه لحظة فاجعة من فواجع المهنة المشتركة تستدعي مراجعة موضوعية في لفتة من القنوات الإخبارية المنافسة إلى حالة إنسانية تمس الوجدان قبل أن تمس جدران المؤسسات وأجهزتها، هي لحظة تختبر فيها إنسانية الصحافي الذي طالما عاش لحظات الموت أكثر من غيره، فالمراسل ومرافقه المصور أول من يقترب من موقع الخطر عندما يهرب الناس ويفرون خوفاً وهلعاً.
تابعت القنوات الإخبارية الفاجعة بكل تفاصيلها في تغطيات مفتوحة، فهي حادثة تلامس المهنة قبل أن تلامس أي شيء آخر. وللمهنة الصحافية ضمير هو الذي يتألم ويتوجع. المراسلة المغتالة خلفها أسرة مكلومة ومفجوعة، مصابها مصاب كل صحافي وصحافية في كل مؤسسات الصحافة العربية. الضمير الصحافي لا يعرف أن فلانا أو فلانة ينتمي أو تنتمي إلى مؤسسة اتخذت من موادها صوتاً معادياً ومخاصماً بل ويصل حد الفجور في خصومته وفي تجاوزاته اللامتناهية.
قناة “الجزيرة” القطرية ليست مؤسسة تعبر عن ممولها فقط، وهذا حق الممول، ولكنها قناة اتخذت خطاً ومساراً ابتعد في خصومته عن مسلك المهنية الصحافية بمعاييرها الأخلاقية، فكم فقدت القنوات الإخبارية المنافسة المحسوبة على تيار الاعتدال من الصحافيين، وكم وقع بزملاء المهنة من النوازل، دون أن تحيط قناة “الجزيرة” القطرية أخبارهم بتغطية تليق بزمالة المهنة على الأقل.
عندما اغتيل الصحافي الجنوبي نبيل القعيطي في عدن في يونيو 2020، وظفت “الجزيرة” الحادثة لمصالح أجندة حليفها السياسي في اليمن الذي يمثله حزب الإصلاح (فرع الإخوان)، وعملت على حرف مسار قضية إنسانية وحولتها إلى قضية تنازع مع ما تطلق عليه “المدعوم إماراتياً” وهو المجلس الانتقالي الجنوبي على اعتباره خصماً سياسياً مباشراً لجماعة الإخوان. لقد وظفت الحادثة ضمن خطاب شعبوي مأزوم وفرغت محتوى الجريمة المرتكبة ضد صحافي لانتمائه السياسي وأسقطت المعايير المهنية. وفي حوادث أخرى سابقة، كما حصل مع قناة سكاي نيوز عربية عندما فقدت الاتصال بطاقمها الصحفي في سوريا عام 2013.
حادثة إثر أخرى تجاهلت قناة “الجزيرة” في تناولها المعايير والقيم لتمرير أجندة ممولها، وتفريغ شهوة الكراهية والبغضاء في خصومه السياسيين دونما اكتراث بالمعايير المهنية، ثم تحاول استدعاءها في لحظة فاجعة تصيبها.
“الجزيرة” أيضا معرضة لذات الخطر، حيث يتواجد مراسلوها في مناطق الصراعات ويتسابقون إلى بؤر النزاعات. فهذا هو سباق الصحافة المستدام. غير أن هناك إسقاطات لا يجب أن تكون، فللممول شهواته وأغراضه التي لا يجب تمريرها على حساب أخلاقيات المهنة النبيلة.
الصحافيون العرب يحملون أكفانهم كما يحملون كاميراتهم على أكتافهم، ويمسكون بالأكفان كما يمسكون بأقلامهم، فهم أكثر من يلامسون الموت في أخبارهم وتقاريرهم ومقالاتهم، لذلك يتعايشون مع الفواجع والمآسي، ويتحولون معها إلى ضحايا لا يكترث أحد بمصائبهم وما يكابدونه من أخبار تتسلل إليهم كسموم تسير في دمائهم تحرقهم، أخبار موجعة عليهم التعامل معها ونقلها للناس بمعايير المهنة وليس بمعايير الممول النهم دوماً للتشفي ولو على حساب ضحية مغلوب على أمرها كانت تنقل خبراً أو تصور حادثاً.
وقفة قصيرة تحتاجها قناة “الجزيرة” القطرية مع ذاتها، فهي لم تلتزم حتى بالحد الأدنى من اتفاق العلا، ولم تنقل أحوال الناس في محيطها داخل الدوحة والوكرة، برغم رفعها لشعار “الرأي والرأي الآخر”.
لماذا غاب ويغيب ذلك الرأي الآخر، بينما يتم التحريض على خصوم تيار الإسلام السياسي تحت كل سماء وعلى كل أرض؟ المهنية الصحافية تتطلب مراجعة والتزاما، فهذه مهنة يشتغل فيها النبلاء، لا فرق بين طبيب جراح يفتح الصدر ليعالج القلب وصحافي مهني يتناول خبراً بمهنية حتى لا يحوله إلى باطل، أو يصنع منه فتنة.