مقالات وكتاب
رداء المملكة وشرعية معدلة.. الصفقات المرحلية وفرص البقاء
اكتشفت السعودية بعد سنين سبع أن “عاصفة الحزم” قد تاهت في أروقة النخب وبارونات اللجان الخاصة وفي الاعلام المزيف، وأن “الشرعية” بتركيبتها قد جرّت عليها ويلات حتى اقتربت الحرائق كثيراً من مراكزها الحيوية.. وأن من أعطته رداءً قد يتسبب في انتزاع قميصها.. وهكذا ذهبت الى التغيير وهي تدرك أن عاصفةً جديدة أو عدة من أعوام أُخر أمر لم يعد متاح البتة.
لقد بددت تجربة “السلطة الشرعية” ومنظومتها وقتاً ثميناً يستحيل تعويضه، تحول خلاله “أنصار الله” إلى قوة تهدد أمن الجيران واستقرارهم ومصالحهم الحيوية ونجحوا في ترسيخ عوامل البقاء وانتزعوا اعترافات العالم وتجاوزوا الفترة الحرجة بخبرة الدولة الإقليمية الراعية لهم، خلافا لما تم في الجانب الآخر.
تلك التجربة كانت كاشفة للكثير من المقاربات الخاطئة والتفكير البعيد عن تعقيدات الواقع، ومن الطبيعي أن تكون كافية (أو هكذا نأمل) لتدفع الأشقاء إلى التفكير بأن تحديث التخريجات بنفس النمط دون ضمان حقيقي لا تعدو كونها محاولة جديدة لتنظيف مداخن البراكين وترك الحمم تتلظى في القيعان إلى حين ميسرة.
ندرك أن أي حديث خارج الهيصة الإعلامية غير مرحب به في هذا التوقيت خاصة وأن الناس مأخوذون بالصوت العال للتغيير وهو أمر مفهوم لكنه أيضاً يحيلنا (لنتعلم) إلى ذات النشوة التي شهدها عام الموفنبيك قبل انهيار اليمن كاملاً شاملاً. ورغم اختلاف المشهد إلا أن روح الغواية التي تبثها الطخطخة الإعلامية بقوة تبهت عادة أي بحث موضوعي في المناطق الرمادية التي قد تكبر وتلتهم كل ما حولها.
هناك معضلات اقتصادية وأمنية وجيوش هامدة تحرس الصحاري وإرهاب يُتوقع أن يتجهز لدورة جديدة ونشطة وأولويات كبيرة تعد بجد امتحان التأهيل إلى المرحلة القادمة، حرباً أو سلماً. وهذا يعني إن العمل من خلال “الرئاسة الانتقالية الجديدة”، التي تجمع بداخلها انقسامات حول مسائل جوهرية، بحاجة ماسة إلى تطوير مواز لآليات التحالف ذاته وأدواره المساندة والاستفادة القصوى من دروس سابقة.
يفهم الناس بأن التغييرات تجسد تحالفات مرحلية و لا تعني أن كل طرف في “التوافقات” قد تنازل عن أهدافه البعيدة فيما يخص الشمال والجنوب كما وأنها لا تعني البتة أن الأوضاع الصعبة في المناطق المحررة قد جادت بأنفاسها الأخيرة وإنما قد تمد الصابرين بفسحة انتظار (من طراز جديد).
هناك إذن مفارقات كبيرة وتحديات اضافية وضعت المجتمع أمام تساؤلات مشروعة بعد أن تم بناء قناعات صلبة رافقت تداعيات الحرب في الشمال وفي الجنوب. ولهذا تجد الناس شتّى في تصوراتهم وتوقعاتهم. وعداك عن فوضى الميديا وتأثيراتها السلبية فإن الأحزاب (واعلامها) ما تزال تقارب المشهد من زوايا متضاربة تخدم مصالحها بدرجة أولى رغم التأكيد على أولوية التوافقات، وهذا إن تجاوز حده جدير بأن يفتح صندوق الأوجاع وهي لو تتذكرون كبيرة.
الجنوب العزيز بعد تلقينه سنوات كيف يلعق (التصبيرات) المعنوية في انتظار تحقيق الغايات المرجوة، يقف الآن على حقيقة أن القادم يتطلب من الجماهير العريضة (طول البال) والتفهُّم حول “تنزيلات الموسم” في الخطاب الذي ربما يعيد للحياة مفردات كانت قد تفحمت، وكذلك التعاطي مع نقاط رمادية بين المبدئية والمعيارية في سلوك القيادة وأحاديثهم كما تفرضها التوافقات المرحلية حتى يتم الانتقال مجدداً نحو سلام أو استمرار الحرب بوسائل أكثر فاعلية كما يُعتقد (وكما لا يُعتقد ايضاً).
أما الشمال العزيز وقد وضعته الصرخة الحوثية في أبراج الصمت، على الطريقة الزرادشتية، لتتناهشه الطروحات المتشددة حول الحق المقدس في الحكم، فإنه يتطلع إلى ما وراء الهدنة بعد أن تعلّم أن كل العداوات قد ترجى مودتها إلا مودة من ذهب مع “دول العدوان”، ولم يخطر بباله بعد الأحداث الكبيرة كيف يمكن الجمع بين إمامة “أنصار الله” وجمهورية النازحين عن الديار، وإنجاب نظام فاقد لذاكرة الدولة الوطنية.
لكن الاهم الذي لا يخطر ببال الجنوب والشمال معاً هو: إمكانية أن يستمر لقاء المفاوض السعودي مع خصمه الإيراني في بلد مكتظ بالكتائب والعصائب لها نفس صرخة صنعاء.. وربما في طور متقدم وفي بلد آخر قد (يتفقان)، في سياق تسويات جيوسياسية ومقايضات، على ضرورة أن (يتفق) اليمنيون فيما بينهم.
ستجد بعض الأطراف مشقة في استشراف القادم الغامض واستكشاف فرص البقاء في واقع ما بعد الصفقات المرحلية.. وليس مستبعد أن يأتي هذا الطرف أو ذاك متاخراً بعد أن تطير الصقور بأرزاقها.