مقالات وكتاب
يناير على السطوح.. كيف نقرأ التاريخ؟
احمد عبد اللاه
لم تكن أحداث ١٣ يناير الأم الحقيقية التي تُردّ إليها غرائز الفرقة، بل كانت المنتج النهائي للتفاعلات المحتدمة داخل جسد السلطة بعد أن تفاقمت “مرحلة إثر مرحلة”، حتى بلغت الذروة في صباح ممطر فاحمرّت أوراق الأشجار وتصادت الغربان لتملأ فضاءات عدن الواسعة.
الجنوب، بعد نوفمبر ٦٧م، أصابته بعمق إيديولوجيات كان لها حضور قوي على الساحة العربية والدولية، ولم تكن “الأداة السياسية” حينها تمتلك توازنات داخلية عقلانية تمكنها من الاعتدال، بل تطورت بداخلها، مع السنين، منصات تتجاذبها اختلافات متعددة يمكن إدراجها غالباً في خانة الصراعات على الحكم.. في ظل غياب تقاليد وأعراف ديمقراطية تنظم تداول “الأمانة العامة” في حزب الدولة، أو تداول السلطة في دولة الحزب.
لقد تركزت معضلة الحزب الحاكم في مسائل جوهرية أهمها:
-غياب آلية تداول السلطة بصورة سلمية.. وهي إشكالية النظام العربي عامة،
-تكريس النموذج الاشتراكي بنسخته المحلية المتشددة والذي قاد إلى ضمور القطاعات الاقتصادية بأنواعها وتخلف الآليات الوطنية في الإدارة،
-ومشروع الوحدة اليمنية.. باعتبار أن “الهوية اليمنية هي الوعاء الجامع للشمال والجنوب”، والذي كان منذ اللحظة الأولى للإستقلال دافعاً لتجاوز محددات الدولة المستقلة تحت سقفها الوطني الثابت.
لم تكن الإشكالية تكمن في تنامي الوعي الوحدوي، لأن تلك ظاهرة وجدانية لدى الشعوب العربية، لكن الخلل تركز في مقاربة الشكل الموضوعي للوحدة وفي الضمانات الحقيقية لنجاح أهدافها.. كما أن قيادات الحزب الإشتراكي، لم تكن تتحلى بالشفافية الكافية لتقف أمام أسئلة مصيرية مثل:
هل الوحدة اليمنية ضرورة؟
ذلك السؤال كان نوع من التابوهات، فالوحدة كما حددها الحزب الحاكم تُعتبر قدر ومصير الشعب، ولم يكن مسموحاً التداول حول مسائل الهويات السياسية والثقافية… الخ وكل مخزون الهويات الممكنة لتحديد المسافات العملية بين التنوع والواحدية الصارمة التي صبغتها شعارات المرحلة.
ومع كل ذلك فإن قراءة التاريخ لا تُفهم ولا تُساق بطريقة عاطفية تجسدها أوجاع اللحظة، وإنما تحتاج إلى عقل وحكمة وقدرات حقيقية. فالتاريخ ليس تقرير حزبي أو اعلان هام للجماهير العريضة وليس مشاهدات بانورامية أو حالة فردانية أو انطباعات شخصية… إنما هو دراسات وبحوث في نواحي سياسية واجتماعية وسيكولوجية يحققها علماء وباحثون مختصون ومجتهدون، يتحلون بالحيادية المهنية لكي تُوضع الأمور في سياقاتها الزمنية دون توظيف التاريخ في أزمات الحاضر لخلق مزيد من الإثارات.
ولهذا لا يجوز تقييم الماضي من خلال تفكيك المجتمع الجنوبي إلى مجموعات مناطقية.. أو إلى قيادات بخلفياتها الجهوية، جنوبية و شمالية أو شرقية و غربية، حين نقيم الأحداث والمنعطفات، لأن ذلك معيب وقاصر، وسيصيب الجميع بسوء كبير.
وقد رأينا كيف ذهب البعض إلى توظيف التاريخ والجغرافيا في إذكاء العصبيات واستهداف مناطق محددة، أو مجموعات محددة على خلفية منشأها ومسقط رأسها، ومصادرة الحقائق وتحريفها وفقاً لأغراض الراهن السياسي، بصراعاته وأدواته، التي لا ترى في التاريخ سوى موارد إعلامية تصيب بها الخصوم.
إن محاولة تقسيم قيادات دولة الجنوب السابقة إلى شماليين وجنوبيين (مثلاً) واعتبار أن الجنوبيين كانوا ضحية وكأنهم أطفال مدارس صغار “لا يفهمون في السياسية ولا في الأحلام ليتم توريطهم في صراعات بينية تمهيداً للوحدة”.. إنما هي من أكثر الطروحات استخفاف بالعقل، ومن أهم التناولات السطحية التي تحاول البناء على أحاسيس الحاضر المحبط.. خاصة وأن دولة الجنوب، بعد الاستقلال، أصبحت “وفقاً لدستورها” دولة يمنية بقيمها السياسية والثقافية والأخلاقية. وإن كانت هناك اشكاليات ذات خلفيات مناطقية داخل الحزب الحاكم أو في توزيع السلطات فإنها ظاهرة عامة لا تقتصر على فئة أو جماعة أو منطقة ولا يمكن أن تُفهم إلا في السياق العام وفي إطار الوعي آنذاك وميكانزمات الحكم والمحاصصة التي امتثل لها الجميع.
استعادة دولة الجنوب لا تعني غرس العنصرية والعصبيات البدائية المقيتة لأنها ستكون انعزالية تحمل الروح العدائية الانتقامية في داخلها وخارجها، وذلك بكل تأكيد ضد الحياة وضد المستقبل. فالجنوب “إن كُتِبَت له العودة” لن يكون سوى بلد تجمعه علاقات الدم والقربى مع اخوته في الشمال، تنعكس في منظومة من الروابط الكونفدرالية التي تسمح للناس بالعيش المشترك وحرية التنقل، وفي التكامل الاستراتيجي في شئون الحياة المادية والروحية، وفي الأمن والنظرة المشتركة إلى قضايا العالم.
هذا هو الخطاب الذي سيحترمه الداخل والخارج، ومن هنا تتم قراءة التاريخ بعقول وضمائر نظيفة وقلوب متسامحة.
يطل يناير كل عام من على سطوح الزمن، يحمل معاني مزدوجة تتراوح بين الذكرى الموجعة والدروس التاريخية، وربما ينبئنا هذا العام بأن الجنوب ما يزال بحاجة الى تعميق المصالحة التاريخية الداخلية الشاملة ليسمو فوق النزعات العنصرية والجهوية والمناطقية، والعمل على حماية الأفكار من السقوط في مستنقعات الكراهية… وأنه بحاجة ماسة إلى الإنفتاح على المستقبل بعقلية متمدنة معاصرة بعيداً عن المؤثرات الكئيبة لمصائب الماضي والحاضر.